فصل: (سورة البقرة: الآيات 222- 223):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.[سورة البقرة: الآيات 222- 223]:

{وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}.
الْمَحِيضِ مصدر. يقال: حاضت محيضا، كقولك: جاء مجيئا وبات مبيتا قُلْ هُوَ أَذىً أى الحيض شيء يستقذر ويؤذى من يقربه نفرة منه وكراهة له فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فاجتنبوهنّ يعنى فاجتنبوا مجامعتهنّ. روى أنّ أهل الجاهلية كانوا إذا حاضت المرأة لم يؤاكلوها ولم يشاربوها ولم يجالسوها على فرش ولم يساكنوها في بيت كفعل اليهود والمجوس، فلما نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ فأخرجوهنّ من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب: يا رسول اللَّه البرد شديد والثياب قليلة، فإن آثرناهن بالثياب هلك سائر أهل البيت وإن استأثرنا بها هلكت الحيض: فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، ولم يأمركم بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم». وقيل: إنّ النصارى كانوا يجامعونهنّ ولا يبالون بالحيض، واليهود كانوا يعتزلونهنّ في كل شيء، فأمر اللَّه بالاقتصاد بين الأمرين، وبين الفقهاء خلاف في الاعتزال، فأبو حنيفة وأبو يوسف يوجبان اعتزال ما اشتمل عليه الإزار، ومحمد بن الحسن لا يوجب إلا اعتزال الفرج، وروى محمد حديث عائشة رضى اللَّه عنها: أنّ عبد اللَّه بن عمر سألها: هل يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ فقالت: تشدّ إزارها على سفلتها، ثم ليباشرها إن شاء. وما روى زيد بن أسلم أنّ رجلا سأل النبي صلى اللَّه عليه وسلم: ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ قال: «لتشدّ عليها إزارها ثم شأنك بأعلاها»، ثم قال: وهذا قول أبى حنيفة.
وقد جاء ما هو أرخص من هذا عن عائشة رضى اللَّه عنها أنها قالت: يجتنب شعار الدم وله ما سوى ذلك. وقرئ: {يطهرن} بالتشديد، أى يتطهرن، بدليل قوله: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ} وقرأ عبد اللَّه: {حتى يتطهرن}. ويطهرن بالتخفيف. والتطهر: الاغتسال. والطهر: انقطاع دم الحيض. وكلتا القراءتين مما يجب العمل به، فذهب أبو حنيفة إلى أن له أن يقربها في أكثر الحيض بعد انقطاع الدم وإن لم تغتسل، وفي أقل الحيض لا يقربها حتى تغتسل أو يمضى عليها وقت صلاة. وذهب الشافعي إلى أنه لا يقربها حتى تطهر وتطهر، فتجمع بين الأمرين، وهو قول واضح. ويعضده قوله: {فَإِذا تَطَهَّرْنَ}. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ من المأتى الذي أمركم اللَّه به وحلله لكم وهو القبل إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ مما عسى يندر منهم من ارتكاب ما نهوا عنه من ذلك وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ المتنزهين عن الفواحش. أو إنّ اللَّه يحبّ التوّابين الذين يطهرون أنفسهم بطهرة التوبة من كل ذنب، ويحب المتطهرين من جميع الأقذار: كمجامعة الحائض والطاهر قبل الغسل، وإتيان ما ليس بمباح، وغير ذلك حَرْثٌ لَكُمْ مواضع الحرث لكم. وهذا مجاز، شبهن بالمحارث تشبيها لما يلقى في أرحامهن من النطف التي منها النسل بالبذور. وقوله فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ تمثيل، أى فأتوهن كما تأتون أراضيكم التي تريدون أن تحرثوها من أى جهة شئتم، لا تحظر عليكم جهة دون جهة، والمعنى: جامعوهن من أى شق أدرتم بعد أن يكون المأتى واحدًا وهو موضع الحرث. وقوله: {هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ}، {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}، {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} من الكنايات اللطيفة والتعريضات المستحسنة. وهذه وأشباهها في كلام اللَّه آداب حسنة على المؤمنين أن يتعلموها ويتأدّبوا بها ويتكلفوا مثلها في محاورتهم ومكاتبتهم. وروى أن اليهود كانوا يقولون: من جامع امرأته وهي مجبية من دبرها في قبلها كان ولدها أحول، فذكر ذلك لرسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم: فقال كذبت اليهود ونزلت. {وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} ما يجب تقديمه من الأعمال الصالحة وما هو خلاف ما نهيتكم عنه.
وقيل: هو طلب الولد، وقيل: التسمية على الوطء وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تجترئوا على المناهي {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ} فتزوّدوا ما لا تفتضحون به {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} المستوجبين للمدح والتعظيم بترك القبائح وفعل الحسنات. فإن قلت: ما موقع قوله: {نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} مما قبله؟ قلت: موقعه موقع البيان والتوضيح لقوله: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} يعنى أنّ المأتى الذي أمركم اللَّه به هو مكان الحرث، ترجمة له وتفسيرًا، أو إزالة للشبهة، ودلالة على أنّ الغرض الأصيل في الإتيان هو طلب النسل لا قضاء الشهوة. فلا تأتوهنّ إلا من المأتى الذي يتعلق به هذا الغرض. فإن قلت: ما بال {يَسْئَلُونَكَ} جاء بغير واو ثلاث مرات، ثم مع الواو ثلاثًا؟
قلت: كان سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرّقة، فلم يؤت بحرف العطف لأنّ كل واحد من السؤالات سؤال مبتدأ. وسألوا عن الحوادث الأخر في وقت واحد، فجيء بحرف الجمع لذلك، كأنه قيل: يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر، والسؤال عن الإنفاق، والسؤال عن كذا وكذا.

.[سورة البقرة: الآيات 224- 225]:

{وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}.
العرضة: فعلة بمعنى مفعول، كالقبضة والغرفة، وهي اسم ما تعرضه دون الشيء من عرض العود على الإناء فيعترض دونه ويصير حاجزًا ومانعًا منه. تقول: فلان عرضة دون الخير. والعرضة أيضًا: المعرض للأمر. قال:
فَلَا تَجْعَلُونِى عُرْضَةً لِلَّوَائِمِ

ومعنى الآية على الأولى: أنّ الرجل كان يحلف على بعض الخيرات، من صلة رحم، أو إصلاح ذات بين، أو إحسان إلى أحد، أو عبادة، ثم يقول: أخاف اللَّه أن أحنث في يمينى، فيترك البرّ إرادة البرّ في يمينه، فقيل لهم: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أى حاجزًا لما حلفتم عليه.
وسمى المحلوف عليه يمينًا لتلبسه باليمين، كما قال النبي صلى اللَّه عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فأت الذي هو خير وكفر عن يمينك» أى على شيء مما يحلف عليه. وقوله: أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا عطف بيان لأيمانكم، أى للأمور المحلوف عليها التي هي البر والتقوى والإصلاح بين الناس. فإن قلت: بم تعلقت اللام في لأيمانكم؟ قلت:
بالفعل، أى ولا تجعلوا اللَّه لأيمانكم برزخًا وحجازًا. ويجوز أن يتعلق ب: {عُرْضَةً} لما فيها من معنى الاعتراض، بمعنى لا تجعلوه شيئا يعترض البر، من اعترضني كذا. ويجوز أن يكون اللام للتعليل، ويتعلق أن تبروا بالفعل أو بالعرضة، أى ولا تجعلوا اللَّه لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. ومعناها على الأخرى: ولا تجعلوا اللَّه معرضًا لأيمانكم فتبتذلوه بكثرة الحلف به، ولذلك ذم من أنزل فيه {وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} بأشنع المذامّ وجعل الحلاف مقدّمتها. وأن تبروا علة للنهى، أى إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا، لأن الحلاف مجترئ على اللَّه، غير معظم له، فلا يكون برًا متقيًا، ولا يثق به الناس فلا يدخلونه في وساطاتهم وإصلاح ذات بينهم. اللغو:
الساقط الذي لا يعتد به من كلام وغيره. ولذلك قيل لما لا يعتد به في الدية من أولاد الإبل لغو واللغو من اليمين: الساقط الذي لا يعتدّ به في الأيمان، وهو الذي لا عقد معه. والدليل عليه {وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ}، {بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} واختلف الفقهاء فيه، فعند أبى حنيفة وأصحابه هو أن يحلف على الشيء يظنه على ما حلف عليه، ثم يظهر خلافه. وعند الشافعي: هو قول العرب: لا واللَّه، وبلى واللَّه، بما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف. ولو قيل لواحد منهم:
سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام لأنكر ذلك، ولعله قال: لا واللَّه ألف مرة. وفيه معنيان:
أحدهما {لا يُؤاخِذُكُمُ} أى لا يعاقبكم بلغو اليمين الذي يحلفه أحدكم بالظن، ولكن يعاقبكم بما كسبت قلوبكم، أى اقترفته من إثم القصد إلى الكذب في اليمين، وهو أن يحلف على ما يعلم أنه خلاف ما يقوله وهي اليمين الغموس. والثاني {لا يُؤاخِذُكُمُ} أى لا يلزمكم الكفارة بلغو اليمين الذي لا قصد معه، ولكن يلزمكم الكفارة بما كسبت قلوبكم، أى بما نوت قلوبكم وقصدت من الأيمان، ولم يكن كسب اللسان وحده وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ حيث لم يؤاخذكم باللغو في أيمانكم.

.[سورة البقرة: الآيات 226- 228]:

{لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}.
قرأ عبد اللَّه: {آلوا من نسائهم}. وقرأ ابن عباس: {يقسمون من نسائهم} فإن قلت: كيف عدى بمن، وهو معدى بعلى؟ قلت: قد ضمن في هذا القسم المخصوص معنى البعد، فكأنه قيل: يبعدون من نسائهم مؤلين أو مقسمين. ويجوز أن يراد لهم مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كقوله: لي منك كذا.
والإيلاء من المرأة أن يقول: واللَّه لا أقربك أربعة أشهر فصاعدًا على التقليد بالأشهر. أو لا أقربك على الإطلاق. ولا يكون في مادون أربعة أشهر، إلا ما يحكى عن إبراهيم النخعي. وحكم ذلك: أنه إذا فاء إليها في المدة بالوطء إن أمكنه أو بالقول إن عجز: صح الفيء، وحنث القادر، ولزمته كفارة اليمين، ولا كفارة على العاجز. وإن مضت الأربعة بانت بتطليقة عند أبى حنيفة. وعند الشافعي: لا يصح الإيلاء إلا في أكثر من أربعة أشهر ثم يوقف المولى، فإما أن يفيء وإما أن يطلق وإن أبى طلق عليه الحاكم. ومعنى قوله فَإِنْ فاؤُ فإن فاءوا في الأشهر، بدليل قراءة عبد اللَّه: {فإن فاءوا فيهن فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر للمولين ما عسى يقدمون عليه من طلب ضرار النساء بالإيلاء وهو الغالب، وإن كان يجوز أن يكون على رضا منهن إشفاقًا منهن على الولد من الغيل، أو لبعض الأسباب لأجل الفيئة التي هي مثل التوبة وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فتربصوا إلى مُضىِّ المدة فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ وعيد على إصرارهم وتركهم الفيئة، وعلى قول الشافعي رحمه اللَّه معناه: فإن فاءوا، وإن عزموا بعد مضى المدة. فإن قلت: كيف موقع الفاء إذا كانت الفيئة قبل انتهاء مدّة التربص؟ قلت: موقع صحيح لأن قوله: {فَإِنْ فاؤُ}، {وَإِنْ عَزَمُوا} تفصيل لقوله: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ} والتفصيل يعقب المفصل، كما تقول: أنا نزيلكم هذا الشهر، فإن أحمدتكم أقمت عندكم إلى آخره، وإلا لم أقم إلا ريثما أتحوّل. فإن قلت: ما تقول في قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وعزمهم الطلاق بما يعلم ولا يسمع؟ قلت: الغالب أن العازم للطلاق وترك الفيئة والضرار، لا يخلو من مقاولة ودمدمة ولابد له من أن يحدّث نفسه ويناجيها بذلك، وذلك حديث لا يسمعه إلا اللَّه كما يسمع وسوسة الشيطان وَالْمُطَلَّقاتُ أراد المدخول بهن من ذوات الأقراء. فإن قلت: كيف جازت إرادتهن خاصة واللفظ يقتضى العموم؟ قلت: بل اللفظ مطلق في تناول الجنس صالح لكله وبعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كالاسم المشترك. فإن قلت: فما معنى الإخبار عنهن بالتربص؟ قلت: هو خبر في معنى الأمر. وأصل الكلام: وليتربص المطلقات، وإخراج الأمر في صورة الخبر تأكيد للأمر، وإشعار بأنه مما يجب أن يتلقى بالمسارعة إلى امتثاله، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص، فهو يخبر عنه موجودًا. ونحوه قولهم في الدعاء: رحمك اللَّه، أخرج في صورة الخبر ثقة بالاستجابة، كأنما وجدت الرحمة فهو يخبر عنها، وبناؤه على المبتدأ مما زاده أيضًا فضل تأكيد. ولو قيل:
ويتربص المطلقات، لم يكن بتلك الوكادة. فإن قلت: هلا قيل: يتربصن ثلاثة قروء، كما قيل: تربص أربعة أشهر؟ وما معنى ذكر الأنفس؟ قلت: في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن، وذلك أن أنفس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويجبرنها على التربص. والقروء: جمع قرء أو قرء، وهو الحيض، بدليل قوله عليه الصلاة والسلام: «دعى الصلاة أيام أقرائك» وقوله: «طلاق الأمة تطليقتان، وعدتها حيضتان» ولم يقل طهران. وقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار. ولأن الغرض الأصيل في العدة استبراء الرحم، والحيض هو الذي تستبرأ به الأرحام دون الطهر، ولذلك كان الاستبراء من الأمة بالحيضة. ويقال: أقرأت المرأة، إذا حاضت.
وامرأة مقرئ. وقال أبو عمرو بن العلاء: دفع فلان جاريته إلى فلانة تقرئها، أى تمسكها عندها حتى تحيض للاستبراء. فإن قلت: فما تقول: في قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} والطلاق الشرعي، إنما هو في الطهر؟ قلت: معناه: مستقبلات لعدتهن، كما تقول: لقيته لثلاث بقين من الشهر، تريد مستقبلا لثلاث، وعدتهنّ الحيض الثلاث. فإن قلت: فما تقول في قول الأعشى:
لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا؟

قلت: أراد: لما ضاع فيها من عدّة نسائك، لشهرة القروء عندهم في الاعتداد بهن، أى من مدّة طويلة كالمدة التي تعتد فيها النساء، استطال مدة غيبته عن أهله كل عام لاقتحامه في الحروب والغارات. وأنه تمرّ على نسائه مدة كمدة العدة ضائعة لا يضاجعن فيها، أو أراد من أوقات نسائك، فإنّ القرء والقارئ جاءا في معنى الوقت، ولم يرد لا حيضًا ولا طهرًا. فإن قلت: فعلام انتصب {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}؟ قلت: على أنه مفعول به كقولك: المحتكر يتربص الغلاء، أى يتربصن مضىّ ثلاثة قروء، أو على أنه ظرف، أى يتربصن مدة ثلاثة قروء. فإن قلت: لم جاء المميز على جمع الكثرة دون القلة التي هي الأقراء؟ قلت: يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في الجمعية. ألا ترى إلى قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} وما هي إلا نفوس كثيرة، ولعل القروء كانت أكثر استعمالا في جمع قرء من الأقراء، فأوثر عليه تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل، فيكون مثل قولهم: ثلاثة شسوع. وقرأ الزهري: {ثلاثة قرو}، بغير همزة. ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ من الولد أو من دم الحيض. وذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلا ينتظر بطلاقها أن تضع، ولئلا يشفق على الولد فيترك تسريحها، أو كتمت حيضها وقالت وهي حائض: قد طهرت، استعجالا للطلاق. ويجوز أن يراد اللاتي يبغين إسقاط ما في بطونهن من الأجنة فلا يعترفن به ويجحدنه لذلك، فجعل كتمان ما في أرحامهن كناية عن إسقاطه إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ تعظيم لفعلهن، وأن من آمن باللَّه وبعقابه لا يجترئ على مثله من العظائم. والبعولة: جمع بعل، والتاء لاحقة لتأنيث الجمع كما في الحزونة والسهولة. ويجوز أن يراد بالبعولة المصدر من قولك: بعل حسن البعولة، يعنى: وأهل بعولتهن أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ برجعتهن. وفي قراءة أبىّ: {بردّتهن فِي ذلِكَ} في مدة ذلك التربص.
فإن قلت: كيف جُعلوا أحق بالرجعة، كأن للنساء حقًا فيها؟ قلت: المعنى أنّ الرجل إن أراد الرجعة وأبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها وكان هو أحق منها، إلا أن لها حقًا في الرجعة إِنْ أَرادُوا بالرجعة إِصْلاحًا لما بينهم وبينهن وإحسانًا إليهن ولم يريدوا مضارّتهنّ وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ ويجب لهنّ من الحق على الرجال مثل الذي يجب لهم عليهنّ بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الذي لا ينكر في الشرع وعادات الناس فلا يكلفنهم ما ليس لهنّ ولا يكلفونهنّ ما ليس لهم ولا يعنف أحد الزوجين صاحبه. والمراد بالمماثلة مماثلة الواجب الواجب في كونه حسنة، لا في جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، ولكن يقابله بما يليق بالرجال دَرَجَةٌ زيادة في الحق وفضيلة. قيل المرأة تنال من اللذة ما ينال الرجل، وله الفضيلة بقيامه عليها وإنفاقه في مصالحها. اهـ.